فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الوضوء
كان صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة في غالب أحيانه ، وربما صلى الصلوات بوضوء واحد . وكان يتوضأ بالمد تارة ، وبثلثيه تارة ، وبأزيد منه تارة ، وذلك نحو أربع أواق بالدمشقي إلى أوقيتين وثلاث . وكان من أيسر الناس صبا لماء الوضوء ، وكان يحذر أمته من الإسراف فيه ، وأخبر أنه يكون في أمته من يعتدي في الطهور وقال : ( إن للوضوء شيطانا يقال له الولهان فاتقوا وسواس - ص 185 - الماء ) .
ومر على سعد وهو يتوضأ فقال له : ( لا تسرف في الماء ، فقال : وهل في الماء من إسراف ؟ قال : نعم ، وإن كنت على نهر جار ) .
وصح عنه أنه توضأ مرة مرة ، ومرتين مرتين ، وثلاثا ثلاثا ، وفي بعض الأعضاء مرتين وبعضها ثلاثا .
وكان يتمضمض ويستنشق ، تارة بغرفة ، وتارة بغرفتين ، وتارة بثلاث . وكان يصل بين المضمضة والاستنشاق ، فيأخذ نصف الغرفة لفمه ونصفها لأنفه ، ولا يمكن في الغرفة إلا هذا ، وأما الغرفتان والثلاث فيمكن فيهما الفصل والوصل ، إلا أن هديه صلى الله عليه وسلم كان الوصل بينهما ، كما في " الصحيحين " من حديث عبد الله بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( تمضمض واستنشق من كف واحدة ، فعل ذلك ثلاثا ) وفي لفظ : ( تمضمض واستنثر بثلاث غرفات ) فهذا أصح ما روي في المضمضة والاستنشاق ، ولم يجئ الفصل بين المضمضة والاستنشاق في حديث صحيح البتة ، لكن في حديث طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده : ( رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفصل بين المضمضة والاستنشاق ) ولكن لا يروى إلا عن طلحة عن أبيه عن جده ولا يعرف لجده صحبة .
- ص 186 - وكان يستنشق بيده اليمنى ويستنثر باليسرى ، وكان يمسح رأسه كله - في الوضوء - ، وتارة يقبل بيديه ويدبر ، وعليه يحمل حديث من قال : مسح برأسه مرتين .
والصحيح أنه لم يكرر مسح رأسه ، بل كان إذا كرر غسل الأعضاء أفرد مسح الرأس ، هكذا جاء عنه صريحا ، ولم يصح عنه صلى الله عليه وسلم خلافه البتة ، بل ما عدا هذا إما صحيح غير صريح كقول الصحابي : توضأ ثلاثا ثلاثا ، وكقوله : مسح برأسه مرتين ، وإما صريح غير صحيح ، كحديث ابن البيلماني عن أبيه عن عمر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من توضأ فغسل كفيه ثلاثا ) ثم قال : ( ومسح برأسه ثلاثا ) وهذا لا يحتج به ، وابن البيلماني وأبوه مضعفان ، وإن كان الأب أحسن حالا ، وكحديث عثمان الذي رواه أبو داود ، أنه صلى الله عليه وسلم ( مسح رأسه ثلاثا )
وقال أبو داود : أحاديث عثمان الصحاح كلها تدل على أن مسح الرأس مرة ، ولم يصح عنه في حديث واحد أنه اقتصر على مسح بعض رأسه البتة ، ولكن كان إذا مسح بناصيته كمل على العمامة .
فأما حديث أنس الذي رواه أبو داود : ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وعليه عمامة قطرية ، فأدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه ولم ينقض العمامة ) فهذا مقصود أنس به أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقض - ص 187 - عمامته حتى يستوعب مسح الشعر كله ، ولم ينف التكميل على العمامة ، وقد أثبته المغيرة بن شعبة وغيره ، فسكوت أنس عنه لا يدل على نفيه .
ولم يتوضأ صلى الله عليه وسلم إلا تمضمض واستنشق ، ولم يحفظ عنه أنه أخل به مرة واحدة ، وكذلك كان وضوءه مرتبا متواليا لم يخل به مرة واحدة البتة ، وكان يمسح على رأسه تارة ، وعلى العمامة تارة ، وعلى الناصية والعمامة تارة .
وأما اقتصاره على الناصية مجردة - في الوضوء - فلم يحفظ عنه كما تقدم . وكان يغسل رجليه إذا لم يكونا في خفين ولا جوربين ، ويمسح عليهما إذا كانا في الخفين أو الجوربين . وكان يمسح أذنيه مع رأسه ، وكان يمسح ظاهرهما وباطنهما ، ولم يثبت عنه أنه أخذ لهما ماء جديدا ، وإنما صح ذلك عن ابن عمر .
ولم يصح عنه في مسح العنق حديث البتة ، ولم يحفظ عنه أنه كان - ص 188 - يقول على وضوئه شيئا غير التسمية ، وكل حديث في أذكار الوضوء الذي يقال عليه فكذب مختلق لم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا منه ، ولا علمه لأمته ، ولا ثبت عنه غير التسمية في أوله ، وقوله : ( أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله - الدعاء بعد الوضوء - ، اللهم اجعلني من التوابين ، واجعلني من المتطهرين ) في آخره .
وفي حديث آخر في " سنن النسائي " - ص 189 - مما يقال بعد الوضوء أيضا : ( سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك )
ولم يكن يقول في أوله : نويت رفع الحدث ولا استباحة الصلاة ، لا هو ولا أحد من أصحابه البتة ، ولم يرو عنه في ذلك حرف واحد ، لا بإسناد صحيح ولا ضعيف ، ولم يتجاوز الثلاث قط ، وكذلك لم يثبت عنه أنه تجاوز المرفقين والكعبين ، ولكن أبو هريرة كان يفعل ذلك ويتأول حديث إطالة الغرة . وأما حديث أبي هريرة في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم أنه غسل يديه حتى أشرع في العضدين ورجليه حتى أشرع في الساقين ، فهو إنما يدل - ص 190 - على إدخال المرفقين والكعبين في الوضوء ، ولا يدل على مسألة الإطالة .
ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتاد تنشيف أعضائه بعد الوضوء ، ولا صح عنه في ذلك حديث البتة ، بل الذي صح عنه خلافه ، وأما حديث عائشة : ( كان للنبي صلى الله عليه وسلم خرقة ينشف بها بعد الوضوء ) وحديث معاذ بن جبل : ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ مسح على وجهه بطرف ثوبه ) فضعيفان لا يحتج بمثلهما ، في الأول سليمان بن أرقم - متروك - ، وفي الثاني عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي - ضعيف - قال الترمذي : ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيء .
ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم أن يصب عليه الماء كلما توضأ ، ولكن تارة يصب على نفسه ، وربما عاونه من يصب عليه أحيانا لحاجة ، كما في " الصحيحين " عن المغيرة بن شعبة ، أنه ( صب عليه في السفر لما توضأ )
( وكان يخلل لحيته ) أحيانا ، ولم يكن يواظب على ذلك . وقد اختلف - ص 191 - أئمة الحديث فيه ، فصحح الترمذي وغيره أنه صلى الله عليه وسلم ( كان يخلل لحيته ) وقال أحمد وأبو زرعة : لا يثبت في تخليل اللحية - في الوضوء - حديث .
وكذلك تخليل الأصابع - في الوضوء - لم يكن يحافظ عليه ، وفي " السنن " عن المستورد بن شداد : ( رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا توضأ يدلك أصابع رجليه بخنصره ) ، وهذا إن ثبت عنه فإنما كان يفعله أحيانا ، ولهذا لم يروه الذين اعتنوا بضبط وضوئه كعثمان وعلي وعبد الله بن زيد والربيع وغيرهم ، على أن في إسناده عبد الله بن لهيعة .
وأما تحريك خاتمه ، فقد روي فيه حديث ضعيف من رواية معمر بن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع ، عن أبيه عن جده ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ( كان إذا توضأ حرك - ص 192 - خاتمه ) ، ومعمر وأبوه ضعيفان ، ذكر ذلك الدارقطني .
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في التيمم
( كان صلى الله عليه وسلم يتيمم بضربة واحدة للوجه والكفين ) ولم يصح عنه أنه تيمم بضربتين ولا إلى المرفقين .
قال الإمام أحمد : من قال إن التيمم إلى - ص 193 - المرفقين فإنما هو شيء زاده من عنده . وكذلك كان يتيمم بالأرض التي يصلي عليها ترابا كانت أو سبخة أو رملا . وصح عنه أنه قال : ( حيثما أدركت رجلا من أمتي الصلاة فعنده مسجده وطهوره ) وهذا نص صريح في أن من أدركته الصلاة في الرمل فالرمل له طهور . ولما سافر هو وأصحابه في غزوة تبوك قطعوا تلك الرمال في طريقهم وماؤهم في غاية القلة ، ولم يرو عنه أنه حمل معه التراب ولا أمر به ، ولا فعله أحد من أصحابه ، مع القطع بأن في المفاوز الرمال أكثر من التراب ، وكذلك أرض الحجاز وغيره ، ومن تدبر هذا قطع بأنه كان يتيمم بالرمل والله أعلم ، وهذا قول الجمهور .
وأما ما ذكر في صفة التيمم من وضع بطون أصابع يده اليسرى على ظهور اليمنى ، ثم إمرارها إلى المرفق ، ثم إدارة بطن كفه على بطن الذراع وإقامة إبهامه اليسرى كالمؤذن إلى أن يصل إلى إبهامه اليمنى فيطبقها عليها ، فهذا مما يعلم قطعا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله ، ولا علمه أحدا من أصحابه ، ولا أمر به ، ولا استحسنه ، وهذا هديه ، إليه التحاكم ، وكذلك لم يصح عنه التيمم لكل صلاة ، ولا أمر به ، بل أطلق التيمم وجعله قائما مقام الوضوء ، وهذا يقتضي أن يكون - ص 194 - حكمه حكمه ، إلا فيما اقتضى الدليل خلافه.
منقول للأمانة (موقع الإسلام الدعوي والإرشادي)